إذا كُنت تجد الكثير من المتعة في القراءة، فأنت من المحظوظين، لأن هناك مَن لا يجد متعة تُذكر في القراءة، بل على النقيض من هذا يجدها فعلا مملا بحق، فلا يقوى على الجلوس لوقت بلا حراك لمُجرد أن يقرأ كلمات مكتوبة في صحيفة أو كتاب أو حتى في رواية.
في عام 2018، نشر كريستوفر إنغراهام تقريرا في صحيفة "واشنطن بوست" يرصد التراجع الكبير في نسبة الأشخاص الذين يجدون القراءة أمرا ممتعا في المجتمع الأميركي. يقول إنغراهام في تقريره: "انخفضت نسبة الأميركيين الذين يقرؤون للمتعة بأكثر من 30% منذ عام 2004، وذلك وفقا لآخر استطلاع أميركي لاستخدام الوقت صادر عن مكتب إحصاءات العمل".
أوضح التقرير أن إجمالي وقت القراءة بين الأميركيين قد انخفض، من متوسط 23 دقيقة للشخص الواحد يوميا في عام 2004 إلى 17 دقيقة للشخص يوميا في عام 2017. رصد التقرير أيضا أن انخفاض القراءة كان أعلى بين الرجال، فقد انخفضت نسبة الرجال الذين يقرؤون للمتعة من 25% في عام 2004 إلى 15% في عام 2017. كذلك فقد انخفضت معدلات القراءة أكثر بين الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 35-44 عاما.
حاول تقرير نُشر على موقع "سايكولوجي توداي" (psychologytoday) تفسير هذه الظاهرة، مؤكدا أن الكثيرين يلقون باللوم على فقدان الشعور بالمتعة عند القراءة على الإنترنت. لكن التقرير ذاته يؤكد أن القراءة الترفيهية قد شهدت انخفاضا منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل انتشار الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب المحمولة بفترة طويلة.
هنا، تُشير دراسة طويلة الأمد لاتجاهات القراءة في هولندا إلى سبب مختلف: قد لا يكون الإنترنت هو المسؤول عن فقدان أو تراجع متعة القراءة، وقد تقع المسؤولية أكثر على عاتق "التلفزيون". فمنذ عام 1955 إلى عام 1995، ازداد وقت مشاهدة الأفراد للتلفزيون بينما انخفض وقت القراءة الأسبوعي.
جاء في الدراسة أنه بالتحقيق في أوقات القراءة الترفيهية للسكان الهولنديين بين عامي 1955-1995، تبين أن الوقت الذي يقضيه الأشخاص في القراءة قد تقلص بمقدار النصف تقريبا. عُثِر على أقوى تراجع حدث في معدلات القراءة خلال المرحلة الأولى من انتشار التلفزيون بين عامي 1955-1975. لاحظت الدراسة أيضا أن الانخفاض قد حدث خصوصا بين الرجال مقارنة بالنساء، ونتيجة لذلك، في عام 1995، كانت النساء في المتوسط يقرأن أكثر من الرجال.
أوضحت الدراسة كذلك أن الجمع بين العمل المأجور والمهام المنزلية بين أجيال ما بعد الحرب، والتنوع المتزايد في الأنشطة الترفيهية، يُفسِّر جزءا من الانخفاض الملحوظ في نِسَب القراءة. لكن تعود نتائج الدراسة لتؤكد أن المنافسة من التلفزيون كانت هي السبب الأبرز والأكثر وضوحا لتراجع مُعدلات القراءة.
عادة ما تستطيع القراءة أن تُحقق غرض الترفيه والحصول على المتعة من خلال "القصص"، سواء كانت واقعية أو خيالية. البشر يجدون متعة لا تنضب في تناقل القصص وسماعها.
إن تناقل القصص هو إحدى السمات الرئيسية التي تُفرِّق البشر عن الحيوانات الأخرى. يُمكن للناس الحصول على القصص ليس فقط من الكتب، ولكن أيضا من التلفزيون والأفلام وحتى الكتب الصوتية، وبالتبعية فإن ظهور كل وسيط جديد يخفف من انتشار الآخر.
إذا كُنت لا تقرأ الكتب من أجل الحصول على المتعة، فرُبما تقرأها من أجل التعلم، وزيادة حصيلة ما تتعرض له من معلومات ومعارف. لكن التعلم من خلال القراءة قد لا يكون هو الطريقة الأمثل للتعلم بالنسبة للجميع، فالبعض يتعلم بشكل أفضل، بل ويميل إلى تفضيل التعلم من خلال "المشاهدة". هذا الاختلاف في طرق التعلم قد يجعل البعض لا يُفضل القراءة ورُبما يكرهها، لأنه في الواقع قد لا يتعلم أو يستفيد شيئا منها.
في الواقع، يتعلم بعض الأشخاص بشكل أسرع وأفضل باستخدام العناصر المرئية مثل الصور ومقاطع الفيديو فيما يتعلق بالمعلومات، ويتعلم من ملاحظة المحيطين فيما يتعلق بالسلوكيات.
قد يعتقد الكثير من الناس أنه على عكس القراءة، فإن مشاهدة الفيديو لا تُسبب الكثير من نشاط الدماغ، ويفترضون أن الدماغ "يتوقف عن العمل" عندما يشاهد المرء مقطع فيديو.
تؤكد أبحاث الرنين المغناطيسي الوظيفي في المركز الطبي بجامعة كولومبيا، أن الاعتقاد السابق ليس صحيحا، وأن الدماغ البشري يكون نشطا للغاية أيضا عند مشاهدة التلفزيون أو مقطع فيديو.
حصلت هذه النتائج من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، حيث وجدت أن الدماغ يستخدم أنشطة معقدة ومنسقة لمتابعة مقطع فيديو، مؤكدة أن نشاط النصف الأيمن من الدماغ يتحسن عند مشاهدة هذه المقاطع. هذا هو المكان الذي ينطوي على الاستجابات العاطفية، وقد يفسر سبب اهتمامنا عاطفيا بالحياة الخيالية لشخصيات الفيديو. تنشط أيضا مناطق الذاكرة قصيرة المدى لأنه يتعين عليك تذكر ما حدث للتو في تسلسل الفيديو وربطه بما يحدث حاليا.
اليوم يمكنك أن تجد أي مهارة تريد تعلمها أو معلومة تريد تحصيلها على الإنترنت بشكل مرئي، هناك الملايين من المقاطع المُصوَّرة التي تسعى إلى تعليم أشياء متنوعة، ويشاهدها ملايين الأشخاص أيضا. رُبما يكون من الواضح أن مقاطع الفيديو التعليمية والإرشادية عبر الإنترنت قد غيرت من الطريقة التي يتعلم بها الكثيرون، وعززت قدرة البعض على التعلم من المشاهدة.
هناك أسباب أخرى للنفور من القراءة. بعض الأنظمة التعليمية قد تصل بالبعض إلى كراهية "التعلم" من الأساس، قد يكره البعض شكل الكتب والشكل الذي تبدو عليه الكلمات عندما تتراص بجوار بعضها بعضا أو الأسطر عندما تتابع وراء بعضها، ببساطة لأن هذا يُذكِّرهم بتجاربهم الصعبة في التعليم المدرسي والأكاديمي وبيئاتهم التعليمية القاسية.
شمل هذا بالطبع التعرُّض للعنف المدرسي من المعلمين، وكذلك الضغط النفسي الهائل الذي قد تُمارسه بعض العائلات على أطفالهم بهدف دفعهم إلى تطوير مستواهم الأكاديمي وتحسين درجاتهم في الاختبارات الدراسية. هل سمعت من قبل أحد أفراد عائلتك أو أحد أصدقائك يُخبرك أنه بعد أن أنهى تعليمه الجامعي أصبح يكره حتى مُجرد رؤية الكتب؟ لعله أخبرك أن السبب في ذلك أنه كان يقضي ساعات طويلة وليالي كاملة ساهرا على تحصيل المعلومات من كتبه المدرسية أو الجامعية، وأن هذا الضغط النفسي الهائل وخوفه من الامتحانات وخشيته من المستقبل الذي ستحدده هذه الامتحانات صبغ علاقته بالكتب والقراءة، ما جعله يرفض لاحقا رفضا تاما أن يقرأ كتابا بإرادته الحرة دون دراسة أو امتحانات، لأن آخر ما كان يرغب فيه حقا هو التحديق في المزيد من الكلمات.
بخلاف العنف والضغط، هناك عدّة أسباب أخرى تدفع بالبعض إلى كراهية التعليم المدرسي أو الجامعي وبالتبعية الكتب، التي منها: انعدام الحرية، الذي قد يخنق فضول الطفل ورغبته في التواصل. التواصل هو المطلب البشري الأكثر بدائية وفطرية. يميل الأطفال إلى أن يكونوا ثرثارين وكثيري الحركة ولديهم رغبة دائمة ومستمرة في استكشاف بيئتهم ومحيطهم، وهو الأمر الذي قد لا تسمح به بيئة المدرسة، التي ترغب، على الأغلب، في أن يكون الطفل جالسا في مكانه صامتا وهادئا يتلقى فقط من مُعلمه المعلومات والعلوم المختلفة.
بشكل مماثل، فإن الواجب المنزلي هو شيء يكره أغلب الطلبة القيام به. قد يُمثِّل قضاء ساعات طويلة في المدرسة ثم بذل جهود إضافية لأداء الواجبات المنزلية عبئا على الأطفال. الملل الذي قد يشعر به الطفل أثناء أداء الواجبات المنزلية قد لا يقل حِدّة عن الملل الذي يشعر به أثناء اليوم الدراسي، بخلاف الضغط الذي يخلقه تهديد سؤال المعلم في اليوم التالي عن واجبات الأمس. لذلك، يميل الطلاب إلى الهروب من مسؤولية إكمال وتقديم الواجبات المنزلية.
كل هذا قد يخلق نفورا من بيئة المدرسة ورُبما كراهية فكرة التعلم، لأنه يتم ربطها ولو بشكل لا واعٍ بالملل وتقييد الحرية، وهو ما قد يربطه البعض لاحقا بالقراءة الحرة والكتب حتى ولو بعد سنوات من إنهاء التعليم والحصول على الشهادة الجامعية.
صعوبة المواد الدراسية وثقلها على بعض الأطفال سبب آخر قد يؤدي أيضا إلى حدوث النفور اللاحق من الكتب والقراءة، إذا كنت طفلا محاطا بنوع خاطئ من الكتب ثقيلة المحتوى غير المناسبة لمرحلتك العمرية أو لقدراتك الفردية الفريدة، فمن الطبيعي، لاحقا، ألا تبدو الكتب والقراءة أمورا جذابة. القارئ النهم هو الشخص الذي، على الأرجح، يكون قد اكتشف متعة القراءة منذ سن مبكرة، هذا الشعور بالمتعة رُبما يكون هو الحافز الذي دفعه للقراءة كثيرا.
قد يكره الأشخاص الذين يجدون بعض الصعوبات في القراءة أو التركيز الكتب والقراءة أيضا، نظرا إلى عدم قدرتهم على استيعاب المعرفة والمعلومات الجديدة التي تحملها سطور الكتب وصفحاتها بوتيرة مُرضية. عندما يقرأ الناس بوتيرة بطيئة جدا، فإن هذا يزعجهم ويحبطهم، ويجعلهم يشعرون بعدم الكفاءة. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، تبدو القراءة مضيعة للوقت وتؤدي إلى الشعور بمشاعر شديدة السلبية. على العكس من ذلك، فإن الأشخاص الذين يتمتعون بمهارات قراءة كافية أو قدرة على القراءة السريعة يكونون أكثر عُرضة للاستمتاع بالقراءة.
يضا الأشخاص الذين يتشتتون كثيرا وبسهولة سيجدون صعوبة في الخوض في كتاب والتعمق في الأفكار التي يحملها. قد يكون أحد أسباب حدوث التشتت هو المُعاناة من الكثير من التوتر أو القلق في الحياة، التوتر والقلق يمكن أن يجعلا القراءة تجربة صعبة ومحبطة يريد الشخص تجنبها. كيف يُمكنك أن تحب الكتب والقراءة إذا كنت لا تستطيع التركيز وكان عقلك يتجول باستمرار للتفكير في الضغوط التي ستواجهها خلال العمل غدا، وكيف سترد على مديرك الذي ضايقك اليوم؟ وكيف ستُصالح زوجتك التي تشاجرت معها عند عودتك من العمل؟ من الطبيعي هنا أن تُفضل القيام بأي نشاط آخر لا يتطلب منك التركيز، وتهرب من القراءة التي تحتاج إلى طاقة ذهنية مُستنزفة من الأساس بفعل القلق والتوتر.
و قد يكون من الشائع جدا أن تؤثر الأمراض العقلية على قدرة المرء على القراءة. حيث يؤثر التعرّض لصدمة بالتأكيد على القدرة المعرفية، والتركيز، والقدرة على التعلم، وحتى القدرة على القراءة. عندما نتعرض لصدمة ما فإننا نشعر بالخطر، هنا تعدّنا أجسادنا لاتخاذ استجابة الهروب أو المواجهة أو التجمد، الهدف من هذه الاستجابة هو أن نتمكن من حماية أنفسنا من الخطر. في تلك اللحظة، يتعطل نشاط قشرة الفص الجبهي، وهي الجزء من الدماغ المسؤول عن مهام التفكير العميق مثل القراءة والرياضيات.
إذا أُصيب شخص ما باضطراب ما بعد الصدمة، فإن جسده، في هذه الحالة، لم يعد يعتقد أنه في أمان. نتيجة لذلك، يتصرف الدماغ كما لو أن الحدث الخطير، الذي انتهى بالفعل، يحدث مرارا وتكرارا، مما يخلق دائرة مستمرة من ذكريات الماضي، ومجموعة متنوعة من الأعراض الجسدية، ويغلق قشرة الفص الجبهي التي تُمكِّننا من القراءة وفهم ما نقرأ.
من ناحية أخرى، تتطلب القراءة غالبا التعاطف، أو تخيل أنفسنا في مكان الشخصيات، بينما يمكن أن يؤثر التعرض للصدمات على الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين، وقد يُفقدنا القدرة على التعاطف التي كانت تُمكننا من استيعاب ما نقرأه والاستمتاع به. تؤكد ويليامسون أن قدرة الشخص على القراءة لا تتأثر سلبا باضطراب ما بعد الصدمة فقط، بل هناك العديد من الأمراض العقلية الأخرى التي تتسبب في حدوث الأمر ذاته، وذلك لأن مشكلات التركيز تحدث في مجموعة متنوعة من التشخيصات والأمراض.