Thursday, January 26, 2023

من مسح الأرضيات إلى صفقة الـ19 مليار دولار.. كيف أسس لاجئ أوكراني أهم تطبيق على هاتفك الذكي؟

تتحدث الإحصاءات عن أرقام مذهلة حققها تطبيق "واتساب" خلال عام 2022، ففي الثانية الواحدة تُرسل نحو 1.1 مليون رسالة عبر التطبيق عالميا. وخلال دقيقة واحدة، تكون خوادم "واتساب" قد نقلت نحو 70 مليون رسالة بين مستخدميها، بينما يصل حجم الرسائل المتبادلة على التطبيق خلال ساعة واحدة فقط أكثر من 4.2 مليارات رسالة. هذا القدر الضخم من الرسائل يُتبادَل بين أكثر من 2.4 مليار مستخدم، مما يجعل "واتساب" واحدا من أكثر التطبيقات تحميلا على الهواتف الذكية على الإطلاق.  

والآن دعونا نترك الحديث عن التطبيق الذي نستخدمه جميعا يوميا بالفعل، ولا داعي لتعديد مناقبه التي نعرفها جيدا، ونتحدث عن شيء آخر لا يعرفه الكثيرون وهو قصة تأسيسه. فمَن هو الشخص الذي يقف وراء تأسيس هذا التطبيق هائل الانتشار؟ وكيف كانت رحلته؟

البداية لم تكن في وادي السيليكون أو في أي مدينة مليئة بناطحات السحاب في الولايات المتحدة، بل كانت في منزل فقير في إحدى ضواحي العاصمة الأوكرانية "كييف" عام 1976، حيث كانت أوكرانيا تابعة للاتحاد السوفيتي. في الواقع، كانت الأمور سيئة للغاية، لدرجة أن المنزل الذي وُلد فيه "جان كوم" لم يكن يحتوي على مياه جارية أو كهرباء مستمرة، وهو الأمر نفسه بالنسبة للمدرسة التي تردد عليها في طفولته التي افتقرت إلى وجود دورات مياه داخلية. 

كان المجتمع الذي نشأ فيه "جان" مغلقا للغاية، لدرجة أنه وصفه لاحقا بأنه تجسيد لرواية "1984" -رواية سوداوية عالمية تصف المجتمعات الشمولية الاستبدادية- في عالم الواقع، حيث التجسس على الهواتف في كل مكان، وتوجيه عقوبات للأشخاص بسبب تحدثهم سرا عن بعض زعماء الحزب الشيوعي، وموارد محدودة للغاية، وبالطبع غياب أي فرصة للتعبير عن الرأي أو متابعة ما يجري حول العالم. 

ثم جاء "الفرج" على هيئة خطاب من الحكومة الأميركية بقبول طلب الأسرة بالهجرة إلى أراضيها، حيث هاجر "جان كوم" مع والدته إلى الولايات المتحدة وهو ابن 16 عاما، وذلك عام 1992. حاول أبوه اللحاق بهم، ولكنه لم يستطع وتوفي في أوكرانيا عام 1997. وقف القدر في صفّ "جان" عندما قرر أن البلدة التي سوف تستقبل عائلته هي "ماونتن فيو" في ولاية كاليفورنيا، حيث سكنا في شقة صغيرة للغاية تمنحها الحكومة الأميركية للاجئين والمهاجرين الجدد، لمساعدتهم على التأقلم في المجتمع وتعلم اللغة والبحث عن الفرص. 

وبالفعل، وبالاعتماد على شراء "بقايا الطعام" المعاد تغليفه بأسعار زهيدة للغاية بدأت الأسرة حياتها الجديدة في الولايات المتحدة، حيث عملت الأم عملها "جليسة أطفال"، بينما عمل الابن المراهق في تلك الفترة "منظف أرضيات" للمحال التجارية للحصول على بعض الأموال التي تساعده في الدراسة.

بعد التحاقه بالثانوية، ومع الاتجاه العام في ولاية كاليفورنيا للاهتمام بالتقنية عموما، قابل جان كوم لأول مرة "جهاز الحاسب الآلي" الذي لم يكن مرّ عليه سابقا على الإطلاق، ناهيك بالتعامل مع شبكة الإنترنت التي كانت متزايدة الانتشار بشكل هائل في أميركا آنذاك. أبدى الشاب اهتماما كبيرا بتعلم البرمجة وأساسيات الحاسوب، وعلَّم نفسه ذاتيا عبر شراء الأدلّة المختلفة من المتاجر المحلية وتطبيق ما يقرأه بنفسه.

ورغم أنه لم يكن طالبا مجتهدا على الإطلاق في المرحلة الثانوية، وكان "كثير المشكلات" كما يصف نفسه، فإنه استطاع بعد أن تخرج بصعوبة بالغة أن يلتحق بجامعة سان خوسيه، ومن ثم بدأ العمل في مؤسسة "إرنست آند يونغ" (Ernst and Young) العالمية الشهيرة موظفا في قسم "اختبار أمن المعلومات". في تلك الأثناء، وبعد عدة أشهر فقط من تولي وظيفته، قابل "جان كوم" لأول مرة زميله الجديد "برايان أكتون" الذي كان يعمل في شركة "ياهو" (Yahoo)، والذي استطاع أن يوفر له فرصة عمل في المجال نفسه "الاختبار الأمني" في شركة "ياهو" التي كانت تُعَدُّ آنذاك -عام 1997- أضخم شركات التقنية في وادي السيليكون وأكثرها نموا، قبل حتى تأسيس شركة "غوغل". 

بعد بقائه لعدة شهور في "ياهو" بوصفه مختبِرا أمنيا بدوام كامل، قرر جان كوم عدم الاستمرار في دراسته الجامعية والتفرغ لمساره الوظيفي، وفي الوقت نفسه ساعدته وظيفته في الانضمام إلى مجتمعات تقنية متطورة في وادي السيليكون استطاع من خلالها تطوير خبراته وتجاربه سريعا في عالم أمن المعلومات. ومع ذلك، ومع حالة الاستقرار الوظيفي تلك، فإن خبرا سيئا كان ينتظر جان كوم على الجهة المقابلة، عندما عرف أن والدته أُصيبت بالسرطان وهي تقاتل في مراحله الأخيرة حتى تدهورت حالتها ورحلت عن العالم عام 2000.

على مدار تسع سنوات كاملة، لبث جان كوم في وظيفته العتيدة في "ياهو" التي وفَّرت له دعما ماديا ومعنويا كبيرا، حيث حصل على ترقية ليصبح مديرا لقسم البنية التحتية في الشركة العملاقة. كانت علاقته بزميله القديم "برايان أكتون" قد توطّدت أكثر بكثير، حتى قرر كلاهما القيام بمغامرة كبيرة وهي الاستقالة من العمل في "ياهو" في خريف عام 2007، وأخذ عطلة لمدة عام كامل يسافر فيها الصديقان إلى أنحاء مختلفة في الولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت الممتع بعد سنوات من العمل المستمر. 

بعد عودتهما من العطلة، واعتمادا على خبرتهما الكبيرة في شركة "ياهو" التي كانت قد بدأت في التراجع بشكل حاد بين الشركات التقنية، تقدّم كلاهما للالتحاق بوظيفة في شركة "فيسبوك"، لكنَّ كليهما فوجئ بالرفض، وكان سبب الرفض هو أن مهاراتهما لا ترقى للعمل في الشركة! هذا الرفض تحديدا سيخلّده التاريخ التقني في أرشيفه لاحقا ربما بوصفه "أغلى رفض في التاريخ"، عندما تدور الأيام ويهرع مؤسس فيسبوك لمقابلة كلٍّ من جان وبريان بنفسه، بل ويتودد لهما بالقدوم إلى منزله. 

ففي مطلع عام 2009، اشترى جان كوم هاتف "آيفون"، ولاحظ أن الهاتف الجديد قد أطلق متجر تطبيقات "آب ستور" (App Store)، الذي أدرك فورا أنه يعكس أهم نقلة تقنية في السنوات المقبلة، وهي "تطبيقات الهواتف الذكية". ومع شبكة علاقاته الواسعة التي كوّنها في "ياهو"، زار الشاب عددا من أصدقائه التقنيين لاستشارتهم ومعرفة المزيد عن تفاصيل صناعة التطبيقات التي كانت جديدة آنذاك، حتى قرر هو وصديقه العتيد "بريان أكتون" تأسيس شركة لتطوير تطبيق للمراسلة الفورية عبر الهواتف، لم يتعب في اختيار اسمه "واتساب" (Whatsapp)، وهي الكلمة الشبيهة نُطقا بكلمة "What’s Up" التي تعني "ما الجديد؟". 

كان جان كوم قد أتم عامه الثالث والثلاثين عندما أطلق شركته الناشئة الجديدة "واتساب" في كاليفورنيا عبر مقر صغير يحوي بعض الموظفين الذين جلبوا معهم أغطيتهم ومقاعدهم الشخصية من المنزل، لتبدأ رحلة تأسيس "شركة ناشئة" كانت تبدو عاديا تماما آنذاك. 

خلال الأشهر الأولى من عام 2009، لم يبدُ أي تأثير يُذكر للتطبيق الجديد. لاحقا، وفي منتصف العام، أطلقت شركة أبل خاصية "التنبيهات" (Push Notification) التي سمحت للرسائل بالظهور بشكل مباشر للمستخدم، وهو ما جعل "كوم" يغير تنبيهات واتساب إلى نغمة "بينغ" (Ping) الشهيرة التي تصدر من الهاتف بعد تلقي الرسائل. بعد هذه الإضافة، ومع المزيد من تطوير التطبيق، لاحظ كوم تزايد الإقبال على تحميلات التطبيق بشكل متسارع، خصوصا في الدول النامية.

 مع تزايد إقبال المستخدمين على التطبيق عالميا، باعتباره وسيلة مراسلة غير مكلِّفة بديلة عن رسائل الهاتف القصيرة "SMS"، بدأ التطبيق في تكوين قاعدة مستخدمين، واستطاع حصد جولة تمويل بذرية مبدئية (Seed Fund) بقيمة 250 ألف دولار، ليبدأ في تسريع وتيرة التطوير بشكل أكبر.

 ساهم في تسريع نمو المستخدمين ابتعاد التطبيق عن استخدام الإعلانات تماما، والمحافظة على الحد الأدنى من الخصوصية للمستخدمين. هذا الاتجاه جعل تطبيق "واتساب" ينمو سريعا بين المستخدمين حول العالم بدون استخدام أي حملات تسويقية أو حملات علاقات عامة، خصوصا في الدول النامية التي وجد مستخدموها فرصة ممتازة للتواصل بلا تكلفة. بقدوم عام 2012، تلقى "جان كوم" اتصالا مرحا من "مارك زوكربيرغ" مؤسس فيسبوك، يعرض عليه الخروج معا وتكوين "صداقة".

 بمرور الوقت، تكوَّنت علاقة صداقة بين الشابين، وأصبحا يتناولان القهوة معا، ولديهما أرقام هواتف بعضهما بعضا. كان من الواضح أن زوكربيرغ يراقب تطوّر نمو "واتساب"، وقواعد المستخدمين المتصاعدة بشكل سريع للغاية التي يحققها التطبيق، ويحرص على إبقاء علاقته قوية مع مؤسسه التي استمرت لمدة عامين كاملا، حتى جاء اليوم الموعود في فبراير/شباط 2014. 

 في التاسع من فبراير/شباط 2014، طلب مارك زوكربيرغ من جان كوم أن يحضر إلى منزله لتناول العشاء معا في سهرة ودية معتادة. وعند جلوسهم جميعا، وجد كوم أمامه على الطاولة عرضا رسميا للصفقة التي يعرضها عليه زوكربيرغ وتسمح لفيسبوك بالاستحواذ الكامل على تطبيق واتساب، وضم "جان كوم" إلى مجلس إدارة فيسبوك، مقابل صفقة إجمالية تُقدَّر بـ19 مليار دولار. ورغم ضخامة الرقم، طلب كوم بضعة أيام للتفكير، ثم عاد مرة أخرى لمناقشة بعض شروط الصفقة مع زوكربيرغ، وذلك في يوم 14 فبراير/شباط.

 

لم يكن تردد "جان كوم" مبالغا فيه كما يمكن للبعض أن يظن، فتطبيق "واتساب" في بداية عام 2014 كان قد وصل عدد مستخدميه حول العالم إلى 450 مليون مشترك، 70% منهم يستخدمون التطبيق بشكل فعال يوميا، فضلا عن مليون مشترك إضافي يقوم بتحميل التطبيق يوميا. هذه الأرقام الضخمة كانت تقود التطبيق ليصبح منافسا رئيسيا لفيسبوك قريبا، وهو ما استدعى أن يشاور جان كوم عددا من أصدقائه والمستثمرين الذين قدَّموا عدة جولات تمويلية للتطبيق منذ إطلاقه في 2009.

 

أخيرا، قرر جان كوم الموافقة على عرض استحواذ فيسبوك على شركته، وهو ما جعله ينضم إلى نادي مليارديرات العالم بثروة قُدِّرت عام 2014 بنحو 7.5 مليارات دولار، حيث كان يمتلك 45% من أسهم الشركة، واستمرت ثروته في التصاعد مع تصاعد قيمة سهم فيسبوك الذي أصبح عضوا في مجلس إدارته، لتصل إلى نحو 13.8 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول 2022. 

في النهاية، بدأ جان كوم رحلته في الحياة من ضواحي بلدة سوفيتية، ثم مهاجرا يعمل في تنظيف الأرضيات، ثم موظفا لعدة سنوات طويلة اكتسب منها الخبرة والتجارب، قبل أن يطلق تطبيق "واتساب" وهو ابن 33 عاما، ليشهد أخيرا توقيع أكبر صفقة استحواذ تقني شهدها العالم آنذاك وهو ابن 38 عاما بثروة تُقدَّر آنذاك بسبعة مليارات دولار، ووصلت إلى ضِعْف هذا المبلغ لحظة قراءتك لهذه السطور.

 

ومع ذلك، ورغم هذه الرحلة الطويلة، فإنه يرفض تماما لقب "رائد أعمال"، حتى إنه صرح ذات مرة قائلا: "الشخص التالي الذي سوف يصفني بأني رائد أعمال سأجعل حارسي الشخصي يلكمه في وجهه".

Sunday, January 15, 2023

مملكة الكسل.. لِمَ نتخلى عن أهدافنا للعام الجديد بحلول يوم 19 يناير؟

بناء الأهداف الجديدة على رأس كل سنة هو عادة ثابتة للجميع تقريبا، فنحن نميل دائما إلى اعتقاد أننا أشخاص جدد ذوو همم جديدة كل عام، لكن سرعان ما تهدأ هذه الثورة سريعا للأسف، ولا يكاد شهر يناير/كانون الثاني ينتصف حتى نبدأ في فقدان تلك الأهداف وكأنها وريقات شجر تتساقط عن فروعنا، فلِمَ يحدث ذلك؟ وهل يمكن التغلب على الأمر؟

لا تخلو بعض الأعوام من كدر وتنغيص نكون في مواجهتهما مَسلوبي الإرادة متردين إلى الهاوية، كعام 2020 الذي خضنا فيه غمار الحرب مع وباء كورونا. ولأن حياتنا في هذا العام كانت مرتعا للألم، ومضت حينها الأيام لا تحمل بصيصا من الأمل، كنا جميعا نتوق إلى انتهاء العام واستقبال العام التالي مُتشبثين بأمل يتجدد باستمرار. ونظرا إلى أهمية وجود شيء في حياة الإنسان تنعقد حوله آماله ويجعل لحياته قيمة، نجدنا مع كل عام جديد نستحث الخطى نحو أهداف جديدة، مُدَاعبين الأمل من جديد، عازمين بصدق على نبذ الماضي، وآملين في تغيير حقيقي لشخصياتنا وحياتنا.

ظهرتْ دراسة حديثة أُجريتْ على الأميركيين أن ما يقرب من 74% منهم وضعوا أهدافا جديدة مطلع العام الماضي 2021، ولا عجب أن قوائم الأهداف التي تصدرت المراكز العشرة الأولى تمحورتْ حول نِيَّات الناس في الالتزام بمزيد من الأكل الصحي، وقضاء وقت أطول مع الأصدقاء والعائلة، ووقت أقل على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالطبع الإقلاع عن التدخين. لكن رغم أن معظم الناس يعتقدون في البداية أنهم سينجحون في بلوغ هذه الأهداف المنشودة، أظهرت الأبحاث شيئا آخر وهو أن معظمنا سرعان ما يتخلى عن أهدافه بحلول يوم 19 يناير/كانون الثاني، وهذا ما أظهره بحث اعتمد في بياناته على تطبيق اللياقة البدنية "سترافا" (Strava)، متتبعا أكثر من 98 مليون هدف متعلّق بأنشطة اللياقة البدنية التي أدخلها المستخدمون بأنفسهم.


غالبا ما يصرف الناس ربيع عمرهم في تكرار الأهداف نفسها عاما تلو الآخر، لأنهم في الأصل لم يتقنوها أبدا ولم يسفر مسعاهم في النهاية عن شيء حقيقي.

إ

ن تملصنا من فكرة الالتزام أو افتقارنا لقوة الإرادة ليست الأسباب الحقيقية التي تدفع الناس عادة إلى التخلي عن قراراتهم، وإنما السبب الرئيسي وراء ذلك هو وقوعنا فريسة سهلة لطريقة تفكير خاطئة أثناء تخطيطنا لأهداف العام. وفيما يلي سنناقش أربعة مآزق شائعة نتعثر بها دائما وعلينا تجنبها أثناء التخطيط.

أهداف مُرهِقة ننسحق تحت وطأتها

انتظارنا طويلا لانتهاء العام واستقبال عام جديد بإرادة متوثبة وأهداف جديدة قد يجعلنا غالبا نقع فريسة لحماس طاغٍ يتولانا بغتة، ويهيّج في النفوس ثورة جامحة لتحقيق أهداف عالية جدا. والمشكلة هنا أننا عندما نحمّل أنفسنا ما لا طاقة لنا به لبلوغ أهداف غير واقعية لا تربطها بطبيعتنا الحقيقية إلا أوهى الصلات، فإن دوافعنا الداخلية لا تصمد طويلا. ورغم أن الأبحاث تُظهر أن أشد الأهداف تحفيزا هي تلك التي تبدو عسيرة في بلوغها، فإننا مع ذلك يجب ألا نغفل عن حقيقة أن هذه الأهداف لا بد أن تكون قابلة للتحقيق في المقام الأول.

ذلك لا يعني بالطبع التخلي عن الأهداف الكبيرة في حياتنا، لكن قبل الاستسلام لمداعبة الأحلام الكبيرة، علينا فقط تغيير طريقة تفكيرنا إزاءها. ربما تعيش في بلد ما وتريد الانتقال إلى بلد آخر لكنك لا تعرف أي مدينة بالتحديد تريد أن تسكنها. في هذه اللحظة، بدلا من أن تجلس قلِقا لا تعرف السكينة سبيلا إلى نفسك، عليك توجيه تركيزك نحو كيفية تحصيل بعض المعلومات المفيدة عن هذا البلد الذي تريد زيارته أو الانتقال إليه.

قد يبدو الانتقال من بلد إلى آخر -مثل العديد من الأهداف الكبيرة الأخرى- أمرا مُربكا يُثقل كاهلنا. ولتفادي احتمالية أن تتحول هذه الأهداف العسيرة إلى عقبات، علينا تقسيم خططنا إلى أجزاء أصغر ونحن نشق طريقنا إليها، حتى لا تتشرب أرواحنا بالإحباط بسبب الحجم الهائل لهذه الأهداف. بهذه الطريقة تصبح أهدافنا أكثر وضوحا واتساقا، فيسهّل علينا ذلك تبيُّن الخطوة التالية التي تقرّبنا أكثر وأكثر إلى وجهتنا المنشودة.

قد تواجهنا أحيانا ظروف خارجة عن نطاق سيطرتنا تُعرقِل سبيلنا نحو أهدافنا. وهذا بالضبط ما شهدناه في الأعوام الثلاثة الماضية منذ بدء انتشار جائحة كورونا التي أثَّرت على خطط العالم كله وازداد الوضع سوءا بزيادة عدد الحالات. ومع قرارات الإغلاق التي اتخذتها البلاد للحد من انتشار الفيروس، تقوضت قدرات الأشخاص على تحقيق أهدافهم. لهذا السبب بالتحديد، من المهم للغاية أن نملك خطة بديلة في حالة تعرضنا لأي ظروف طارئة يمكن أن تُثنينا عما اعتزمناه.
لا بد أن تضع في حسبانك العقبات التي قد تعترض سبيلك في أي لحظة فتنسج نِقابا من اليأس والقنوط حول إرادتك.

أنه أثناء تحديد الأهداف، لا بد أن تضع في حسبانك العقبات التي قد تعترض سبيلك في أي لحظة فتنسج نِقابا من اليأس والقنوط حول إرادتك. قد تُفاجئك هذه العقبات في الأسبوع الأول من العام الجديد وأنت تحاول جاهدا الحفاظ على أهدافك، أو ربما يمر العام دون مواجهة أيٍّ منها، وأحيانا أخرى قد تظهر هذه العقبات في مكان ما في المنتصف. لكن بغض النظر عن هذه الاحتمالات كلها، عليك التخطيط مُسبقا لمواجهة عقبات يمكن أن تعترض سبيلك في أي لحظة. لذا، من المهم أن نسأل أنفسنا عن ماهية هذه العقبات التي من المحتمل أن نواجهها وكيفية حلها.


إذا اشتريت عضوية جديدة في صالة الألعاب الرياضية على سبيل المثال، وخططت لممارسة الرياضة كل يوم، فإنك قد لا تضع في حسبانك بعض الاحتمالات التي قد تعترض سبيلك، كأن يُغلَق المكان مثلا بسبب الوباء أو أي سبب كان، أو أن يتملكك السأم من التمارين، أو أن ترفع الصالة الرياضية تكلفة اشتراكها الشهري بما يتجاوز قدرتك على الدفع، أو أي مُعرقلات أخرى قد تتعثر بأذيالها.

ذا لم تضع في خطتك احتمالية مواجهة مثل هذه العقبات، فيمكنها بسهولة أن تعرقل تقدُّمك. في حين إذا توقعت حدوث مثل هذه الأشياء، وتساءلت عما عسى تتمخض عنه هذه العقبات، فإن ذلك يُسهِّل عليك إعداد خطة بديلة. وفي النهاية، أيما كانت أهدافك، فلا بد أن تتطلع دائما إلى الجانب المشرق من الحكاية وتداعب الأمل دون أن تنسى التخطيط لأسوأ الاحتمالات التي قد تنغِّص صفو حياتك.

علينا أن نصرف أنفسنا عن متابعة أهدافنا باعتبارها مهام صارمة لا بد من تحقيقها بحذافيرها، ونفكر بدلا من ذلك في النتائج الإيجابية التي تحققها خطواتنا الصغيرة.

لنأتِ الآن إلى المأزق الثالث. من المرجح أن طبيعتنا البشرية تحتم علينا التفكير بطريقة "إما الحصول على كل شيء وإما لا شيء"، بمعنى أننا ننظر بعين ناقدة لا تتلمس مواضع الرضا فيما نحققه. فإن لم ننتهِ من ذلك الماراثون، استصغرنا أنفسنا، وإذا لم نحصل على العلامة الكاملة في الاختبار، فذلك يعني فشلنا الحتمي. ورغم أن العديد من الناس يعتقدون أن مثل هذه الأفكار ستكون مُحَفزة، فإننا في الواقع نُقدِّم أنفسنا لقمة سائغة للإحباط.

المشكلة هنا أننا إذا حصلنا على علامة غير كاملة أو تمكنا من إكمال نصف الماراثون فقط، فسرعان ما نتجرع غصص الألم وننطوي على أنفسنا طويلا، بدلا من السماح لكل ذلك أن يبعث فينا روحا جديدة مفعمة بالفخر لمواصلة العمل. وإحدى المفارقات العجيبة أننا بدلا من أن نمضي قاهرين لنزعات الضعف التي تُومَض في نفوسنا بين الحين والآخر، نختار أن نهاجم أنفسنا ونحاكمها مُحاكمة قاسية نتيجة للهواجس التي تسكننا بأننا "لم نكن جيدين بما فيه الكفاية" لبلوغ أهدافنا، فنتوقف عن المحاولة.

أحد أشهر الأمثلة على هذه المعضلة هي مساعينا المتكررة لترتيب خزانة ملابسنا. غالبا ما تبوء هذه المساعي بالفشل، لذا يحاول معظمنا أن يضع هذه المهمة ضمن قائمة أهدافه التي يأمل تحقيقها، لكن ولسبب ما نفشل مجددا في تحقيق هذا الهدف. ويكمن حل هذه المُعضلة في تغيير طريقة تفكيرنا إزاء ترتيب الملابس.

لسنوات طويلة، ظل قرار الحفاظ على خزانة ملابسي مرتبة وأنيقة ضمن أهدافي كل عام. كنت أهدف إلى ترتيب الخزانة بأكملها مرة واحدة وإبقائها على هذا النحو دائما، لكن ذلك لم يُجدِ نفعا من الناحية العملية. لكن بمجرد أن غيّرت طريقة تفكيري إزاء هذا الهدف الكبير، وقررت تقسيمه إلى أجزاء أصغر، كقضاء 10 دقائق أسبوعيا في الحفاظ على الخزانة مُرتبة، بلغتُ هدفي المنشود، وتُوجتْ هذه الإستراتيجية بالنجاح بعيدا عن نظرية إما الكل وإما لا شيء التي كنت أتبناها دائما مستسلمة لغواية إما الحفاظ على الخزانة مُرتبة تماما طوال الوقت، وإما تركها تنقلب رأسا على عقب.
للتغلب على نظرية "إما الكل وإما لا شيء"، علينا أن نصرف أنفسنا عن متابعة أهدافنا باعتبارها مهام صارمة لا بد من تحقيقها بحذافيرها، ونفكر بدلا من ذلك في النتائج الإيجابية التي تحققها خطواتنا الصغيرة. فإذا كنت ترغب في إنقاص وزنك على سبيل المثال، فخسارتك لـ50 رطلا هو إنجاز رائع بالطبع، لكن خسارتك لـ20 رطلا ليس بالأمر السيئ على الإطلاق. وبالتالي، إذا ما تشرَّب أغلبنا الدروس المضمّنة من هذه الإستراتيجية، فلن يكون لعواقب إخفاقنا بالضرورة كل هذا الثقل الرازح فوق نفوسنا، وهو أمر من المرجح أن يساهم في أن تمتلئ نفسك بالثقة وتصحّ عزيمتك على السير في الطريق إلى نهايته عبر الاستمرار في المحاولة.

حيانا تقرر تجنب أكل الحلوى، لكن في لحظة عابرة تنهزم إرادتك أمام قطعة من كعكة الشوكولاتة. وبمجرد الانتهاء منها، يقتحمك شعور بأنك أفسدت الأمر برمته، وتبدأ عاصفة من تقريع الذات في اجتياح نفسك، ومع شعورك بالإحباط، سرعان ما تستسلم لالتهام قطعة ثانية وثالثة من الكعكة، ما يضاعف من قنوطك أكثر. بغض النظر عن أن مصارعتك لنفسك مصارعة لا هوادة فيها هو أسلوب غير عادل وقاسٍ للغاية، فإن مثل هذا النقد الذاتي لن يكون الجسر الذي ستعبر من خلاله إلى النجاح كما قد يُخيّل إليك. تُعَدُّ أقصر طريقة لإقناع عقولنا بأنه لا فائدة من المحاولة هي الإذعان لأفكارنا اللاذعة بأننا غير أكفاء أو أغبياء أو نفتقر إلى قوة الإرادة.

إذا كنت تقود سيارتك، وبدون قصد منك تجاوزت إشارة المرور، وتلقيت مخالفة على ذلك، فهل ستستمر في تقريع ذاتك وتقرر تجاوز الإشارات طوال اليوم ما دام الخطأ قد وقع منذ البداية، ثم تنوي الالتزام بدءا من الغد؟ عليك أن تدرك أن محاولة إصلاح خطأ واحد بالاستمرار في ارتكاب مجموعة أخرى من الأخطاء ليس بالأمر الصحيح. لذا، لا بد أن تعلم مقدما أنك سترتكب أخطاء بالطبع، وبالتالي عليك أن تتعلم كيف تكون أشد تسامحا إزاء ما ابتُليت به طبيعتنا البشرية من تقريع الذات، وأن تتمكن من البدء سريعا مرة أخرى.

نصيحة بسيطة لكنها قوية حول كيفية ممارسة قدر أكبر من التعاطف الذاتي، فكِّر فيما ستقوله لصديق أو شخص عزيز عليك ارتكب الخطأ ذاته الذي ارتكبته للتو، ثم اسأل نفسك: هل ستكون قاسيا مع هذا الشخص؟ ألا يعني ذلك أنك تُثقل كاهلك بمعايير غير واقعية؟

على أية حال، لا يوجد في هذه الحياة مَن هو كامل، هذه هي الحقيقة المجردة حتى وإن بدت مُبتذلة بعض الشيء. مهما كانت أهداف العام الجديد، فمن المحتمل أننا سنتعثر ببعض العقبات في مرحلة ما. وبدلا من أن نلوم أنفسنا على ذلك، لا بد أن نفهم أننا بشر معرضون لأن نرتكب أخطاء ويخيب مسعانا في أي لحظة. لذا بدلا من جلد ذواتنا على أخطاء ارتكبناها، علينا فقط تجاوزها، ومسامحة أنفسنا والعودة لاحتضانها من جديد.

في نهاية المطاف، عليك أن تدرك جيدا أن أهدافك الجديدة مع بداية كل عام لا تتعلق بالكمال، وإنما بقدرتك على الالتزام بشيء تهتم به، شيء قد يحسّن حياتك، أو يغمرك بالقليل من السعادة، أو يُحسِّن من الرقعة الصغيرة التي تقطُنها في هذا العالم الفسيح.